سورة القلم - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القلم)


        


{يتلاومون} معناه: يجعل كل واحد اللوم في حيز صاحبه، ويبرئ نفسه، ثم أجمعوا على أنهم طغوا، أي تعدوا ما يلزم من مواساة المساكين، ثم انصرفوا إلى رجاء الله تعالى، وانتظار الفرج من لدنه في أن يبدلهم بسبب توبتهم خيراً من تلك الجنة. وقرأ: {يبْدلنا} بسكون الباء وتخفيف الدال، جمهور القراء والحسن وابن محيصن والأعمش، وقرأ نافع وأبو عمرو: بالتثقيل وفتح الباء، وقوله تعالى: {كذلك العذاب} ابتداء مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم في أمر قريش، والإشارة بذلك إلى العذاب الذي نزل بالجنة، أي ذلك العذاب، هو العذاب الذي ينزل بقريش بغتة، ثم عذاب الآخرة بعد ذلك أشد عليهم من عذاب الدنيا، وقال كثير من المفسرين: العذاب النازل بقريش المماثل لأمر الجنة هو الجدب الذي أصابهم سبع سنين، حتى رأوا الدخان وأكلوا الجلود، ثم أخبر تعالى: {إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم}، فروي أنه لما نزلت هذه قالت قريش: إن كانت ثم جنات نعيم، فلنا فيها أكبر الحظ، فنزلت: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين}، وهذا على جهة التوقيف والتوبيخ. وقوله تعالى: {ما لكم} توبيخ آخر ابتداء وخبر جملة منحازة، وقوله تعالى: {كيف تحكمون} جملة منحازة كذلك، و{كيف} في موضع نصب ب {تحكمون}، وقوله تعالى: {أم} هي المقدرة ببل وألف الاستفهام، و: {كتاب} معناه: منزل من عند الله، وقوله تعالى: {إن لكم فيه لما تخيرون}. قال بعض المتأولين: هذا استئناف قول على معنى: إن كان لكم كتاب، فلكم فيه متخير، وقال آخرون: {إن} معمولة ل {تدرسون}، أي تدرسون في الكتاب إن لكم ما تختارون من النعيم، وكسرت الألف من {إن} لدخول اللام في الخبر، وهي في معنى: أن بفتح الألف. وقرأ طلحة والضحاك: {أن لكم} بفتح الألف. وقرأ الأعرج {أأن لكم فيه} على الاستفهام.


قوله تعالى: {أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة} مخاطبة للكفار، كأنه يقول: هل أقسمنا لكم قسماً فهو عهد لكم بأنا ننعمكم في يوم القيامة وما بعده؟ وقرأ جمهور الناس بالرفع على الصفة لأيمان، وقرأ الحسن بن أبي الحسن {بالغةً} بالنصب على الحال وهي حال من النكرة، لأنها نكرة مخصصة بقوله {علينا}، وقرأ الأعرج: {أإن لكم لما تحكمون} وكذلك في التي تقدمت في قوله: {أإن لكم فيه لما تخيرون}، ثم أمر تعالى نبيه محمداً على وجه إقامة الحجة، أن يسألهم عن الزعيم لهم بذلك من هو؟ والزعيم: الضامن للأمر والقائم به، ثم وقفهم على أمر الشركاء، عسى أن يظنوا أنهم ينفعونهم في شيء من هذا. وقرأ ابن أبي عبلة وابن مسعود: {أم لهم شركاء فليأتوا بشِركهم} بكسر الشين دون ألف، والمراد بذلك على القراءتين الأصنام، وقوله تعالى: {فليأتوا بشركائهم} قيل هو استدعاء وتوقيف في الدنيا، أي ليحضروهم حتى يرى هل هم بحال من يضر وينفع أم لا، وقيل هو استدعاء وتوقيف على أن يأتوا بهم يوم القيامة، {يوم يكشف عن ساق}. وقوله تعالى: {يوم يكشف عن ساق}، قال مجاهد: هي أول ساعة من يوم القيامة، وهي أفظعها، وتظاهر حديث من النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه ينادي مناد يوم القيامة ليتبع كل أحد ما كان يعبد»، قال: «فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، وكذلك كل عابد لكل معبود ثم تبقى هذه الأمة وغبرات أهل الكتاب، معهم منافقوهم وكثير من الكفرة، فيقال لهم: ما شأنكم لم تقفون، وقد ذهب الناس فيقولون ننتظر ربنا فيجيئهم الله تعالى في غير الصورة التي عرفوه بها، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، قال فيقول: أتعرفونه بعلامة ترونها فيقولون: نعم، فيكشف لهم عن ساق، فيقولون: نعم أنت ربنا، ويخرون للسجود فيسجد كل مؤمن وتصير أصلاب المنافقين والكفار كصياصي البقر عظماً واحداً، فلا يستطيعون سجوداً».
قال القاضي أبو محمد: هكذا هو الحديث وإن اختلفت منه ألفاظ بزيادة ونقصان، وعلى كل وجه فما ذكر فيه من كشف الساق وما في الآية من ذلك، فإنما هو عبارة عن شدة الهول وعظم القدرة التي يرى الله تعالى ذلك اليوم حتى يقع العلم أن تلك القدرة إنما هي لله تعالى وحده، ومن هذا المعنى قول الشاعر في صفة الحرب [جد طرفة]: [مجزوء الكامل]
كشفت لهم عن ساقها *** وبدا عن الشر البواح
ومنه قول الراجز: [الرجز]
وشمرت عن ساقها فشدوا...
وقول الآخر: [الرجز]
في سنة قد كشفت عن ساقها *** حمراء تبري اللحم عن عراقها
وأصل ذلك أنه من أراد الجد في أمر يحاوله فإنه يكشف عن ساقه تشميراً وجداً، وقد مدح الشعراء بهذا المعنى فمنه قول دريد: [الطويل]
كميش الإزار خارج نصف ساقه *** صبور على الضراء طلاع أنجدِ
وعلى هذا من إرادة الجد والتشمير في طاعة الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: «أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه». وقرأ جمهور الناس: {يُكشَف عن ساق} بضم الياء على بناء الفعل للمفعول، وقرأ ابن مسعود: {يَكشِف} بفتح الياء وكسر الشين على معنى يكشف الله، وقرأ ابن عباس: {تُكشف} بضم التاء على معنى تكشف القيامة والشدة والحال الحاضرة، وقرأ ابن عباس أيضاً: {تَكشف} بفتح التاء على أن القيامة هي الكاشفة، وحكى الأخفش عنه أنه قرأ: {نَكشِف} بالنون مفتوحة وكسر الشين، ورويت عن ابن مسعود. وقوله تعالى: {ويدعون} ظاهره أن ثم دعاء إلى السجود، وهذا يرده ما قد تقرر في الشرع من أن الآخرة ليست بدار عمل وأنها لا تكليف فيها، فإذا كان هذا فإنما الداعي ما يرونه من سجود المؤمنين فيريدون هم أن يسجدوا عند ذلك فلا يستطيعونه. وقد ذهب بعض العلماء إلى أنهم يدعون إلى السجود على جهة التوبيخ، وخرج بعض الناس من قوله: {فلا يستطيعون} أنهم كانوا يستطيعونه قبل ذلك، وذلك غير لازم. وعقيدة الأشعري: أن الاستطاعة إنما تكون مع التلبس بالفعل لما قبله، وهذا القدر كاف من هذه المسألة هاهنا. و: {خاشعة} نصب على الحال وجوارحهم كلها خاشعة، أي ذليلة ولكنه خص الأبصار بالذكر لأن الخشوع فيها أبين منه في كل جارحة. وقوله تعالى: {ترهقهم ذلة} أي تزعج نفوسهم وتظهر عليهم ظهوراً يخزيهم، وقوله تعالى: {وقد كانوا يدعون إلى السجود} يريد في دار الدنيا وهم سالمون مما نال عظام ظهورهم من الاتصال والعتو، وقال بعض المتأولين: {السجود} هنا عبارة عن جميع الطاعات، وخص {السجود} بالذكر من حيث هو عظم الطاعات، ومن حيث به وقع امتحانهم في الآخرة، وقال إبراهيم التيمي والشعبي: أراد ب {السجود} الصلوات المكتوبة، وقال ابن جبير: المعنى كانوا يسمعون النداء للصلاة: وحي على الفلاح فلا يجيبون، وفلج الربيع بن خيثم: فكان يهادي بين رجلين إلى المسجد، فقيل له: إنك لمعذور، فقال: من سمع حي على الفلاح، فليجب ولو حبواً، وقيل لابن المسيب: إن طارقاً يريد قتلك فاجلس في بيتك، فقال: أسمع حي على الفلاح فلا أجيب؟ والله لا فعلت. وهذا كله قريب بعضه من بعض، وقوله تعالى: {فذرني ومن يكذب بهذا الحديث} وعيد ولم يكن ثم مانع، ولكنه كما تقول: دعني مع فلان، أي سأعاقبه، {ومن} في موضع نصب عطفاً على الضمير في: {ذرني} أو نصباً على المفعول معه، و{الحديث} المشار إليه هو القرآن المخبر بهذه الغيوب، والاستدراج هو: الحمل من رتبة إلى رتبة، حتى يصير المحمول إلى شر وإنما يستعمل الاستدراج في الشر، وهو مأخوذ من الدرج، قال سفيان الثوري: نسبغ عليهم النعم، ويمنعون الشكر، وقال غيره: كلما زادوا ذنباً زادوا نعمة، وفي معنى الاستدراج قول النبي صلى الله عليه وسلم:
«إن الله تعالى يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» وقال الحسن: كم من مستدرج بالإحسان إليه ومغرور بالستر عليه. {وأملي لهم} معناه: أؤخرهم ملاوة من الزمن، وهي البرهة والقطعة، يقال: مُلاوة: بضم الميم وبفتحها وبكسرها، والكيد: عبارة عن العقوبة التي تحل بالكفار من حيث هي: على كيد منهم، فسمى العقوبة باسم الذنب، والمتين: القوي الذي له متانة، ومنه المتن الظهر.


هذه {أم} التي تتضمن الإضراب عن الكلام الأول لا على جهة الرفض له، لكن على جهة الترك والإقبال على سواه، وهذا التوقيف لمحمد صلى الله عليه وسلم، والمراد به توبيخ الكفار لأنه لو سألهم أجراً فأثقلهم غرم ذلك لكان لهم بعض العذر في إعراضهم وقرارهم، وقوله تعالى: {أم عندهم الغيب فهم يكتبون} معناه: هل لهم علم بما يكون فيدعون مع ذلك أن الأمر على اختيارهم جار، ثم أمر تعالى نبيه بالصبر لحكمه، وأن يمضي لما أمر به من التبليغ واحتمال الأذى والمشقة، ونهى عن الضجر والعجلة التي وقع فيها يونس صلى الله عليه وسلم، ثم اقتضبت القصة، وذكر ما وقع في آخرها من ندائه من بطن الحوت {وهو مكظوم}، أي غيظه في صدره. وحقيقة الكظم: هو الغيظ والحزن والندم فحمل المكظوم عليه تجوزاً، وهو في الحقيقة كاظم، ونحو هذا قول ذي الرمة: [البسيط]
وأنت من حب مني مضمر حزناً *** عاني الفؤاد قريح القلب مكظوم
وقال النقاش: المكظوم، الذي أخذ بكظمه وهو مجاري القلب، ومنه سميت الكاظمة وهي القناة في جوف الأرض. وقرأ جمهور الناس: {لولا أن تداركه} أسند الفعل دون علامة تأنيث، لأن تأنيث النعمة غير حقيقي وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسعود وابن عباس: {تداركته} على إظهار العلامة، وقرأ ابن هرمز والحسن: {تدّاركه} بشد الدال على معنى: تتداركه وهي حكاية حال تام، فلذلك جاء الفعل مستقبلاً بمعنى: {لولا أن}، يقال فيه تتداركه نعمة من ربه ونحوه، قوله تعالى: {فوجد فيها رجلين يقتتلان} فهذا وجه القراءة، ثم أدغمت التاء في الدال، والنعمة: هي الصفح والتوب، والاجتباء: الذي سبق له عنده، والعراء: الأرض الواسعة التي ليس فيها شيء يوارى من بناء ولا نبات ولا غيره من جبل ونحوه، ومنه قول الشاعر [أبو الخراش الهذلي]: [الكامل]
رفعت رجلاً لا أخاف عثارها *** ونبذت بالأرض العراء ثيابي
وقد نبذ يونس عليه السلام {بالعراء} ولكن غير مذموم، و{واجتباه} معناه: اختاره واصطفاه. ثم أخبر تعالى نبيه بحال نظر الكفار إليهم، وأنهم يكادون من الغيظ والعداوة، يزلقونه فيذهبون قدمه من مكانها ويسقطونه. وقرأ جمهور القراء: {يُزلقونك} بضم الياء من أزلق، وقرأ نافع وحده: {يَزلقونك}. بفتح الياء من زلقت الرجل، يقال: زلِق الرجل بكسر اللام وزلَقته بفتحها مثل: حزن وحزنته وشترت العين بكسر التاء وشترتها، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: {ليزهقونك} بالهاء، وروى النخعي أن في قراءة ابن مسعود: {لينفدونك}، وفي هذا المعنى الذي في نظرهم من الغيظ والعداوة قول الشاعر: [الكامل]
يتقارضون إذا التقوا في مجلس *** نظراً يزيل مواطئ الأقدام
وذهب قوم من المفسرين إلى أن المعنى: يأخذونك بالعين، وذكر أن الدفع بالعين كان في بني أسد، قال ابن الكلبي: كان رجل يتجوع ثلاثة أيام لا يتكلم على شيء إلا أصابه بالعين، فسأله الكفار أن يصيب النبي عليه السلام، فأجابهم إلى ذلك، ولكن عصم الله تعالى نبيه، قال الزجاج: كانت العرب إذا أراد أحدهم أن يعتان شيئاً، تجوع ثلاثة أيام، وقال الحسن: دواء من أصابه العين أن يقرأ هذه الآية، و{الذكر} في الآية القرآن، ثم قرر تعالى أن هذا القرآن العزيز {ذكر للعالمين} من الجن والإنس، ووعظ لهم وحجة عليهم، فالحمد لله الذي أنعم علينا به وجعلنا أهله وحماته لا رب غيره.
نجز تفسير سورة {ن والقلم} بحمد الله تعالى وعونه وصلى الله على محمد وآله وسلم.

1 | 2